مع حقيقة ولادة أناكسيماندر في مدينة طاليس الإغريقية الواقعة على الساحل الاسيوي لتركيا ، حوالي 611ق.م، إلا أننا لا نعرف الكثير عن حياته. و ذلك لأنه كان مقللّاً بالتدوين و غالباً ما كان يترك ذلك لطلبته , و ما وصلنا جاء من خلال ما كُتب عنه بيد فلاسفة و علماء من الإغريق المهتمين بسلفهم اللامع .
تخيل ان العالَم الذي نعرفه اليوم مسطح ، و لا تسنده في الفضاء الواسع إلّا أعمدة . لقد ساد هذا الاعتقاد : ان عالمنا يقبع في مركز كون بشكل خيمة محاطاً بنجوم متساوية البعد عن الأرض و ثابتة قرب الحواف .
و الآن تخيل ان أحدهم اخبرك ، و على عكس الاعتقاد السائد : ان الأرض لها (عمق ) و ليس هناك ما يسندها و ان النجوم و القمر و الشمس ليست فقط على أبعاد مختلفة و لكنها أيضاَ تدور حول ارضنا ثلاثية الأبعاد .
بالتأكيد سيمثل هذا الادعاء ثورة تزعزع كل المعتقدات الموجودة و الفرضيات السائدة حول الكون و القفزة الأكبر في المفاهيم العلمية التي تبناها اناکسیماندر .
نظرية اللانهائي
عُرف أناكسماندر بمؤسس علم الفلك , و يُعتبر نقطة الانطلاق للفهم الغربي الحالي للكون .
الإغريقي الذي ولد و مات في طاليس ( تركيا اليوم ) ، يغلب الظن انه سافر كثيراً من أجل بلورة نظراته الكونية .
تتلمذ اناکسیماندر على يد طاليس الملطي ، و الذي كان بارعاً هو الآخر في علوم الفيزياء و الفلسفة و الهندسة و الفلك . و كما هو الحال مع طاليس ، فلا نعرف الكثير عن حياة اناكسيماندر مع بقاء فقرة واحدة فقط من مخطوطاته الاصلية .
و قد لعب الإغريق اللاحقون ببلورة ثرائه العلمي و وصف جوانبه المتعددة و نخص بالذكر منهم أرسطو طاليس و ثاوفرسطس .
غالباً ما كان اناكسيماندر يُقدم كفيلسوف أكثر منه عالم خاصة بعد ما قدم نظرية ( اللانهائي ) أو ( اللامحدود ) , و كانت هذه الفكرة هي المبدأ الأول لكل شيء . فلا أصل و لا انتهاء . و لكن : ( هي ما انبثقت عنه كل السماوات و عوالمها المخبوءة ) .
مع العلم ان أفكاره الفلكية هي التي كان لها التأثير الأكبر حَيثُ كانت نواة لنظريات لاحقة غيرت العالم .
كون طوبوغرافي الطبيعة
هنالك جدل حول الإنجاز الأكبر لاناكسيماندر خاصة في تصويره لمفهوم أن الأرض معلقة و بلا مساند و هي مركز الكون .
فقد صور المفكرون الإغريق الأرض كقرص مسطح مستقر في مكانه بفعل الماء أو أعمدة أو أي تركيب مادي آخر . و بالرغم انه من الواضح ان اناكسيماندر لا دراية له بالجاذبية آنذاك ، إلا أنه دعم ادعاءه بالافتراض بان الأرض هي مركز الكون متساوية البعد عن جميع الاطراف .
علاوة على ذلك ، فقد سمح افتراض ان الأرض معلقة بشكل حر ، و بان الشمس و القمر و النجوم تدور حول الأرض .
و فسرت الفرضية على سبيل المثال لا الحصر ، سبب غروب الشمس من الغرب و ظهورها في الشرق . فلو اضفنا فكرة ان للأرض عمقاً ، حينها صور اناكسيماندر الأرض مخروطية الشكل يعلوها قرص منبسط هو السطح الوحيد لها . من هنا ظهرت صورة غير مسبوقة للكون .
الفراغ بين النجوم
لقد اكتشف اناکسیماندر و بشكل فاعل فكرة الفضاء ، أو الكون ذا العمق عوضاً عن الرؤية المحدودة بان الأرض مقنطرة .
و قد دافع عن اعتقاده بالقول ان الاجرام السماوية كالشمس و القمر و النجوم كانت تبعد عن الأرض بمسافات مختلفة و يفصلها الهواء أو الفضاء ، و كان يعزو هذه المسافات إلى حركة هذه الاجرام حول الأرض إلا أنه كانت فرضيته القائلة بان النجوم هي الأقرب إلى الأرض و بعدها يأتي القمر , و أن الشمس أبعد ما يكون عن الأرض هي فرضية خاطئة .
ولو ان اناكسيماندر كان قد رسم مخططاً لنظريته حول الكون لكانت قفزة نوعية في التمثيل الصوري بالرغم من الأخطاء التي تشوب التفاصيل .
الإنجازات الأخرى لأناكسيماندر
لم يكن اناکسیماندر فلكياً وحسب ولكنه :
- قدم الساعة الشمسية إلى الإغريق نقلاً عن البابليين حَيثُ استخدمها لتحديد الانقلاب الشمسي والاعتدالين الربيعي والخريفي .
- في مجال الجغرافيا فيعتقد بأنه أول من رسم خارطة لعالم اليوم . و هذا بحد ذاته إنجاز علمي تاريخي في الوقت ذاته .
- و في المجال البيولوجي ، كان قد سبق نظرية التطور لداروين دون تخطيط أو تمحيص ، بل اعتقد ان الإنسان جاء من الكائنات الأولى التي سكنت الأرض . و كان يعتقد اناكسيماندر ان هذه الكائنات اتخذت شكل السمك الذي تشكل لاحقاً بسبب المياه المرتفعة من أثر حرارة الشمس .
توفي أناكسيماندر سنة 547 ق.م