المقالة (Essay) فن حديث تطور عن فن الرسالة الأدبية القديمة : إذ لم يعرف تاريخنا الأدبي المقال بالصورة التي نراها عليه في وقتنا الحاضر .
و لكن كان لدى العرب فن نثري قريب في خصائصه الفنية من هذا الفن , كانوا يسمونه الرسائل ، و لا نقصد بها الرسائل الديوانية التي كان ينمقها الكتاب على لسان الخلفاء و الأمراء و القادة ، و يبعثون بها إلى الولاة و الأفراد ، و لا الرسائل الإخوانية ( الشخصية ) التي يتبادلها الأدباء في المناسبات المختلفة ، و لكننا نقصد الرسائل التي كان يخصصها الكتاب لموضوعات بعينها ، كرسالة أبي حيان التوحيدي في علم الكتابة و غيرها .
و قد نسجت المقالة الحديثة هذا النوع من الكتابة . و ذهب بعض الباحثين إلى أن المقالة فن قديم و ليس ظهورها إلا عودة إلى الأصول العربية التليدة .
إن المقال في الأدب العربي الحديث لم ينشأ بوصفه فناً أدبياً مستقلاً ، بل ارتبط منذ نشأته بالصحافة و استمد منها وجوده و تنوعت موضوعاته بحسب الاتجاهات التي سادت الصحافة العربية ، فكان في بدايته محدود الأفق ، يتناول موضوعات وطنية و اجتماعية ضيقة المجال ، ثم اتسعت آفاقه ليشمل كل شؤون المجتمع و أحداثه ، كما اختلفت أسالييه تبعاً للتطور لأسلوب الكتابة منذ مطلع النهضة الحديثة في الصحف و المجلات .
و هكذا فالمقالة كما نعرفها اليوم فن سبقنا إليه الغرب منذ بضعة قرون على يد الكاتب الفرنسي مونتين بوصفه رائد المقالة الحديثة ، هو و فرانسيس بيكون الإنجليزي . و قد ارتبط هذا الفن بالصحافة و تقدم بتقدمها من جهة و باتساع الحرية الفكرية من جهة أخرى . إذ تفتحت آفاق جديدة من المعرفة ، و تعددت جوانب الثقافة ، و أخذ الكتاب يهتمون بتقديم وجهات نظرهم و التدليل عليها بطريقة مباشرة .
مفهوم المقالة
المقالة لغة : مصدر ميمي من الفعل ( قال ) بمعنى القول .
و لكن المقالة بالمعنى الاصطلاحي بحث قصير في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع ، يُنشر في صحيفة أو مجلة .
و هي بشكل أوضح : نص نثري يدور حول فكرة واحدة تناقش موضوعاً ، فتُعبر عن وجهة نظر ما ، أو تهدف إلى إقناع القراء لتقبل فكرة ما ، أو إثارة عاطفة ما عندهم . و تمتاز بالاقتصاد في الطول , وسلاسة اللغة و الجاذبية في الأسلوب .
الأطوار التي مرت بها المقالة
مرت المقالة لخمسة أطوار ، هي :
الطور الأول : و يمثله كتاب الصحف الرسمية حتى الثورة العرابية . و من أبرزهم رفاعة الطهطاوي ، و أحمد فارس الشدياق ، و قد حفلت لغتها بالزخارف و المحسنات البديعية .
الطور الثاني : و فيه تحرر الكتاب من قيود السجع إلى حد كبير . و من أبرز كتاب المقالة في هذا الطور أديب إسحاق ، و عبد الله النديم ، و محمد عبده ، و عبد الرحمن الكواكبي .
الطور الثالث : و تميز بالنزعة السياسية و الاجتماعية ، و فيه تخلصت المقالة من قيود الصنعة و السجع . و من أبرز كتابها في هذا الطور أحمد لطفي السيد , و شكيب إرسلان , و قاسم أمين .
الطور الرابع : ظهر خلال النصف الأول من القرن العشرين ، و أبرز كتابها في هذا الطور : المنفلوطي ، و جبران خليل جبران ، و ميخائيل نعيمة ، و مي زيادة ، و أحمد حسن الزيات ، و مصطفى صادق الرافعي و خليل السكاكيني ، و طه حسين ، و هيكل ، و المازني و العقاد ، و أحمد أمين ، و أحمد زكي ، و مارون عبود . و امتازت المقالة فيه بالتركيز و الدقة العلمية و الميل إلى الثقافة العامة لتربية أذواق الناس .
الطور الخامس : و قد ظهر بعد منتصف القرن العشرين و من أعلامه : عيسى الناعوري و رجاء النقاش ، و شاكر مصطفى و محمد جابر الأنصاري ، و عبد العزيز المقالح و إبراهيم العسكري و غيرهم .
عناصر المقالة
تتألف المقالة من ثلاثة عناصر :
- اللغة
- الفكرة
- العاطفة
اللغة : يختار الكاتب الناجح الكلمات المناسبة ، بحيث يراعي الأمور الآتية :
- يتخلص من الكلمات غير الضرورية ، نحو قولنا : يُعد الرجل خبيراً في السياسة بدلاً من : و هو يُعد خبيراً في حقل السياسة .
- يتجنب تكرار الأسماء و استخدام الضمائر المناسبة بدلاً عنها ، نحو قولنا :يتعرض قطاع غزة إلى الحصار ، و يواجه سكان قطاع غزة خطر المجاعة ، إذ تُكتب : يتعرض قطاع غزة إلى الحصار ، و يواجه سكانه خطر المجاعة .
- لا يستعمل صيغة المبني للمجهول من غير ضرورة ، نحو قولنا : مُنح ثلاثة علماء جائزة الملك فيصل العالمية من قبل لجنة التحكيم ، فتُكتب : مَنحت لجنة التحكيم ثلاثة علماء جائزة الملك فيصل العالمية .
- لا يستخدم جملة أو شبه جملة بدلاً من كلمة واحدة ، كقولنا : كان محمود درويش هو الذي تم الاحتفاء به في حفلة الأمس . فنقول : كان محمود درويش هو المُحتفى به في حفلة الأمس .
- يتجنب استعمال المفردات و المصطلحات المبتذلة ، و يراعي أموراً في تركيب الجمل هي : أن تكون الجملة تامة ، سواء أكانت اسمية أم فعلية . و أن تكون واضحة بعيدة عن التداخل .
- لا يفصل بين أركان الجملة بجمل اعتراضية طويلة .
الفكرة : تدور المقالة حول فكرة رئيسة واحدة يَستمد الكاتب عناصرها من تجربته الخاصة ، و من تجارب الناس في الحياة . و من ثقافته العامة و قراءاته المستمرة .
إن الفكرة تشكل عنصراً مهماً في المقالة ، إذ تجعل لها معنى و تحدد لنا الهدف منها ، بأسلوب سهل ، و تنأى بنفسها عن الفكرة المعقدة أو العميقة . فهذه مجالها البحث العلمي الدقيق .
العاطفة : تشكل العاطفة عنصراً أساسياً في المقالة الذاتية ، التي تظهر فيها شخصية الكاتب بما فيها من مشاعر و أحاسيس و آراء خاصة . أما المقالة الموضوعية فتكاد تخلو من الذاتية و من العاطفة ، إذ تختفي فيها ذاتية الكاتب إلى حد كبير ، و خصوصاً المقالة العلمية .
أنواع المقالة
يمكننا أن نميز أنواع المقالة بحسب موضوعاتها فنقول : مقالة سياسية ، أو اجتماعية ، أو أدبية ، أو تاريخية ، أو علمية إلخ ، أو بحسب ميلها إلى الذاتية أو الموضوعية ، فإذا قسمنا المقالة إلى نوعين رئيسين : ذاتية و موضوعية عنينا بذلك أن النوع الأول تغلب عليه الذاتية ، و أن الثاني تغلب عليه الموضوعية .
عنوان المقالة
لكل مقال عنوان ( Title ) ، يُعد مفتاحاً له و دالاً على محتوياته ، إذ هو أول ما يقرأه المتلقي ، و من هنا لا بد من أن يثير اهتمامه . ويجب أن يتسم بالتركيز و التعبير عن الموضوع و القدرة على جذب القارئ .
البناء الفني للمقالة
تتألف المقالة من مقدمة، و عرض ، و خاتمة .
- المقدمة : تُلخص المقدمة موضوع المقال و تبين أساس الفكرة التي بُني عليها ، و نظراً لأهميتها ينبغي أن تتسم بالطرافة و الحيوية لاجتذاب القارئ و الاستثار بانتباهه ، و تُعد المقدمة الفقرة الأولى من المقالة .
- جسم الموضوع ( العرض ) : و يتناول فيه الكاتب الفكرة الرئيسة بالتحليل و التفصيل و الاستدلال عليها ، و سوق الأمثلة ، ثم يربط بين نقاط موضوعه لتتم وحدته .
- الخاتمة : و تكون في الفقرة الأخيرة ( الختامية ) ، و فيها يُجمل الكاتب ما عرضه من التجارب و الملحوظات و التأملات في عبارة مركزة موجزة واضحة يخرج منها القارئ يثمرة المقال .
الفرق بين المقالة و الخاطرة
فن الخاطرة فن نثري حديث ، تفرّع عن المقالة ، و ارتبطت نشأتها بالصحافة في مختلف مناحيها الأدبية و الثقافية و الاجتماعية و السياسية ، و استقرت أساليبها على أيدي كبار الأدباء أمثال أديب إسحاق ، و جبران خليل جبران و طه حسين و عباس محمود العقاد ، و مي زيادة ، وعبد الوهاب عزام وغيرهم .
ثمة اختلاف بين الخاطرة و المقالة من عدة وجوه :
- فالخاطرة ليست فكرة ناضجة و ليست وليدة زمن بعيد و إنما هي فكرة عارضة طارئة . لا تعرض من كل الوجوه ، بل هي مجرد لمحة .
- و ليست الخاطرة كالمقالة مجالاً للأخذ و الرد ، و لا تحتاج إلى الأسانيد و الحجج القوية لإثبات صدقها ، بل هي أقرب إلى الطابع الغنائي....
- ثم لا ننسى الاختلاف في الطول ، فالخاطرة لا تتجاوز نصف عمود من الصحيفة ، و عموداً من المجلة... .
و نخلص من هذه الإشارة إلى أن الخاطرة فكرة عارضة واحدة يستلهمها الكاتب من ملاحظاته اليومية ، ثم يعرضها في سطور قليلة دون أن تُتاح لها فرصة النضج الكافي أو الاختمار في ذهن صاحبها ، ومن ثم فهي تفتقر إلى العمق و النظرة الشاملة . و نقيضها المقال .