إن اغتيال أبراهام لنكولن قد روع كافة الأمريكيين في كل من الولايات الشمالية و الولايات الجنوبية على السواء . فلقد فقـد الشماليون الرجل الذي قادهم إلى النصر في سراع طويل ضار ، وفقد الجنوبيون الشخص الوحيد الذي كان في مقدوره أن يعيد بناء بلادهم المحطمة دون أن بفرض عليها مزيداً من الأعباء الثقال .
فلا غرابة إذن أن كان نبأ مصرع الرئيس في الخامس عشر من شهر أبريل عام 1865م قد أثار أسى عميقاً .
إن ممثلاً نصف مخبول یُدعی چون ويلكيز بوث John Wilkes Booth قد اندفع إلى مقصورة لنكولن أثناء مهرجان تمثيلي في المسرح ، وأطلق النار على الرئيس من مسدسه ، ثم قفز من المقصورة إلى خشبة المسرح ، حيث تمكن من الإفلات .
وقد بقي لنكولن على قيد الحياة تلك الليلة ، ولكنه لفظ أنفاسه في وقت مبكر من صباح اليوم التالي , وعلى هذه الصورة مات واحد من كبار الرؤساء الأمريكيين الذين ما كان يمكن للولايات المتحدة الأمريكية بغيرهم أن تبلغ ما بلغته اليوم .
نشأة أبراهام لنكولن
ولد أبراهام لنكولن عام 1809م في ولاية كنتكي Kentucky القائمة على الحدود ، وكان أبواه في فقر مدقع ، وكانت أسرة لنكولن الكبيرة العدد تعيش في كوخ خشبي صغير عند طرف الغابة .
وعندما توفيت أمه كان بعد في التاسعة من عمره ، ولكن كان من حسن طالعه أن تزوج أبوه مرة ثانية ، وكانت سارة چونستون Sarah Johnston زوجة أبيه امرأة طيبة القلب ، فأخذت تشجع أبراهام في كفاحه لتعليم نفسه . ولقد اضطرته ظروف حياته إلى أن يتولى هذا التعليم معتمداً على نفسه وحده عن طريق الكتب التي كان من العسير الحصول عليها في منطقة نائية على الحدود .
وقد أفلح ذات يوم في شراء عدد كبير من الكتب من مسافر كان متجهاً إلى الغرب وكان يحمل الكتب في برميل كبير، ولم يكن يريد حملها معه أكثر من ذلك .
والواقع أن هذه الكتب قد زودت لنكولين بمادة وافرة للدرس والتحصيل ، وذلك برغم أن أباه كان يقاوم جاهداً هذه الفكرة . وفي هذا الصدد كان أبوه يقول : ( أظن أن أبراهام يبدد وقته بهذا التعليم . إنني حاولت منعه ، لكنه كان مُشبع الرأس بهذه الفكرة الحمقاء ، ولم يتسنَ انتزاعها منه ) .
وكانت أول رحلة له قدر أن تفتح الدنيا أمامه هي تلك التي قام بها وهو في التاسعة عشرة من عمره ، حين ذهب فيها أجيراً في مركب مسطح , و كانت وجهته ميناء نيو أورليانز New Orleans ، إذ كان لهذه المغامرة أثر ظل طويلاً في قرارة نفسه .
وعندما بلغ الحادية والعشرين انتقل للإقامة في مدينة نيوسالم New Salem بولاية إلينوي . وفي هذه المدينة اشتغل في عدد من الأعمال المتواضعة جداً ، ومنها وكيل بريد في القرية . ومع أنه كانت تعوزه الرشاقة في الحركة والتعبير بالإضافة لطول قامته ودمامة مظهره ، إلا أنه سرعان ما أصبح ذا شهرة كبيرة كراوي قصص ، ومقلد للحركات التمثيلية .
الحياة السياسية لأبراهام لنكولن
إن الشعبية التي اكتسبها لنكولن في مضمار روي القصص و التمثيل , كانت أكبر عون له عندما استقر عزمه على الانخراط في الشؤون السياسية ، وفي عام 1834م تم إنتخابه في مجلس إلينوى التشريعي -وهو البرلمان المحلى - منتمياً إلى حزب المحافظين ، أو بالأحرى كمعتدل يؤمن بضرورة المحافظة على نظام الحكومة الاتحادي .
ثم انتقل عام 1837 م إلى مدينة سبرنجفيلد عاصمة الولاية لكي يكون في موضع أفضل يمكنه من متابعة مستقبله السياسي ، ولكى يصبح زعيماً للهويج في البرلمان ، وفى نفس الوقت بدأ يتدرب على المحاماة .
وكانت دراسته للقانون ترجع إلى بعض الكتب التي عثر عليها في البرميل الذي اشتراه في صباه ، وفي عام ١٨٤٢م تزوج لنكولن مسز ماری تود Mrs Mary Todd ، وأنجب الزوجان أربعة أبناء ، لم يتح لغير واحد منهم فقط لسوء الحظ أن يبقى على قيد الحياة ويبلغ مرحلة الرجولة . على أن حياتهما الزوجية كانت في مجموعها مقرونة بالسعادة رغم ما كان يظللها من غرابة أطوار زوجته .
ثم أُنتخب لنكولن عام 1846 م عضوا في الكونجرس - البرلمان الاتحادي - ولكن فترة وجوده في المجلس لم تكن ناجحة ، فقد ضايق الكثيرين باعتداله السياسي ، ولم يكرر الحزب المنتمي إليه ترشيحه للنيابة مرة أخرى .
وكان الخلاف يتزايد بين الولايات في الشمال ، وهي التي لم تكن تسمح بامتلاك العبيد الزنوج ، وبين ولايات الجنوب التي كانت تعتمد على أعداد كبيرة منهم في زراعة القطن ، وكان ثمة تفاهم مؤداه أن يُسمح لولايات الجنوب بالاحتفاظ بما لديها من العبيد بشرط عدم السماح بانتشار الرق شمالاً إلى الولايات الجديدة التي كان يجرى إنشاؤها بسبب تراجع الحدود .
لنكولن محرر العبيد
ما أن جاء عام 1850 م ، حتى غدا رجال الشمال المناهضون للرق على غير استعداد لاحتماله أكثر من ذلك ، كما أن بعض المتهورين في الجنوب كانوا يريدون السماح بالرق في ولايتي نبراسكا و كانساس الجديدتين.
لم يستطع الحزب السياسي الذي ينتمي إليه لنكولن ( الهويج ) والذي كان يأخذ بسياسة الحل الوسط لأنها كانت تُبقى على النظام الاتحادي للولايات - لم يستطع هذا الحزب أن يصمد لضغط المتطرفين من كلا الجانبين - ، وأخذ بالتالي يفقد كل مؤيديه . ونتيجة لذلك أُنشئ حزب سياسي جديد في الشمال سُمي الحزب الجمهوري ، هدفه إلغاء الرق ، وقد استقر رأي لنكولن على الانضمام إليه .
وفى عام 1858 م ، وقع الاختيار على لنكولن ليكون مرشح الحزب الجمهوري لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوى ، وسرعان ما تحدى منافسه الديمقراطي ستيفن دوجلاس للإشتراك في مناقشة علنية للمسائل الكبرى التي تشغل الأذهان ، فوافق دوجلاس ، ومع أن لنكولن خسر الترشيح ولم يفز في الانتخابات ، إلا أن الخطب التي ألقاها في مساجلاته مع دوجلاس جعلت لإسمه شهرة في كافة أرجاء البلاد .
وفي عام 1860 م أُختير لنكولن مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة ، واستطاع بسهولة أن يفوز في الانتخابات بسبب الانقسام الخطير لأنصار الحزب الديمقراطي بين شماليين وجنوبيين . ولكن قبل أن يستطيع لنكولن أن يحتل مقعده في البيت الأبيض قررت معظم الولايات الجنوبية الخروج من الاتحاد وإعلان استقلالها ، وقد اتخذت هذه الولايات لنفسها اسم الولايات الكونفدرالية .
وفى عام 1861 م ، قام الإنفصاليون بإطلاق المدافع على حصن يعرف باسم فورت سومتر Fort Sumter ، وعلى الفور بدأت الحرب الأهلية .
ورغم أن الولايات الشمالية كانت أوفر غنى وأكثر سكاناً من الجنوب ، فإن الحرب تطورت تطوراً سيئاً بالنسبة إليهم في البداية بسبب القيادة البارعة للقائد الجنوبي الجنرال روبرت إ لي Robert E Lee . ولم يستطع لنكولن أن يوقف إ لي الذي وجد فيه نداً إلا في عام 1863 م .
حالما اضطلع الجنرال جرانت General Grant بمهام القيادة عام 1863 م ، تغير سير التيار و أحرز الشمال انتصارات كبيرة في فيكسبرج و چتيسبرج . وفي نفس العام أعلن لنكولن تصريحه المشهور عن تحرير كافة العبيد .
وبحلول عام 1865 بلغ الجنوب حد الإنهاك ، واضطرت رتشموند عاصمة الجنوب إلى الاستسلام ، بيد أن لنكولن لم يعش طويلاً لكي يشهد انتصاره العظيم وإنقاذ الحكم الاتحادي . ففي الرابع عشر من شهر أبريل ، أي بعد خمسة أيام من استسلام الجنرال لي ، أُستهدف لنكولن للرصاص الذي أطلقه عليه چون ويلكيز بوت ، وقضى نحبه في اليوم التالي .