جلسة في العيادة النفسية جمعت كل من الطبيب , و عائلة تتكون من سيدة في الأربعين من عمرها و زوجها رجل الأعمال الناجح الذي يقاربها في العمر, و إبنتهما الشابة التي تبلغ السابعة عشر من عمرها.
أحضرها الوالدان للعلاج بسبب ما إعترى تصرفاتها و سلوكها من تغيرات خلال الأسابيع السابقة.
و لقد حددت العائلة موعداً مع الطبيب النفسي بعد تردد , بناءً على نصيحة ملحة من أحد الأخصائيين في الأمراض الباطنية عندما أُستشير في أمر الفتاة.
الأم : إنها تغيرت يا دكتور. حالتها صعبة جداً منذ شهرين وهي منعزلة تماماً عن كل الدنيا.. ولم تعد تتكلم أبداً.. إنها نادراً ما ترد علي أو تبادلني الحديث..أنا.. حتى أمها....
أمها التي تحبها أكثر من أي إنسان، وتتمنى لها كل خير و سعادة. لقد حاولت كثيراً أن أعرف ما جرى لها..
وحاولت بكل الوسائل أن أجعلها تبادلني الحديث.. دون نتيجة.
و إنني لم أعد أستطيع فهمها.. بل إنني أحس أنها بعيدة عندما أحاول التقرب إليها. لقد أصبحت بعيدة جداً.. بل إنها تصد كل محاولاتي للإقتراب منها بطريقة جافة و جارحة.
هكذا انطلقت الأم في الحديث بتوتر.. وهي تنظر بين الحين و الآخر الى الفتاة.
ومضت الأم في حديثها المتوتر عن ابنتها:
لقد تعبت من كثرة سؤالها عما تحس به أو ما يضايقها.. لكنها لا ترد، و تصد..
إنها صامتة كتمثال حجري.. تتحرك كالإنسان الآلي.. و أصبحت كالشبح.. موجودة وغير موجودة.
لكنني بعض الأحيان أشعر أنها تتعمد ذلك السكوت، بل يُخيل إلي انه إضراب متعمد عن الكلام مع الناس و لكن.. معي أنا بالذات أكثر من أي إنسان... إنني لا أفهم سبباً لذلك... ولا أجد له مبرراً.
لا أخفي عليك يا دكتور أنني أحياناً أشعر بالضيق من هذا الصمت والجمود، و أشعر بالقهر كلما فشلت محاولاتي للحديث معها... أو حتى التفاهم بإشارة.
و عندما تفلت أعصابي و أواجهها بذلك... بما أشعر به من غيظ و ضيق لأنها ترفض مساعدتي لها عامدة لتعذبني هكذا.
عندئذٍ فقط ترد... و تتغير الى إنسانة أخرى تماماً... تتحول إلى مجنونة هائجة ثائرة... لا تطاق... و تتكلم لدقائق أو لمدة نصف ساعة... بغضب و ثورة و وقاحة... كلاماً أكثره غير مفهوم... و لكنه كله تجريح و إساءة لها. يا دكتور هي أما مريضة جداً أو شريرة جداً.
إنني منكوبة والله... إننا نستطيع معاً... أنا و هي أن نجعل من حياتنا شيئاً رائعاً... فلدينا كل الاحتياجات المادية والحمد لله. و لقد كان أملي فيها أكبر من ذلك. كان أملي أن نكون أحسن صديقتين وخصوصاً لأن زوجي مشغول بالعمل دائماً... ربنا يعينه.
وهنا تدخل الأب قائلاً للأم بضيق و غضب:
أنت تعرفين أنني مشغول بعملي من أجلكما، ومع ذلك فلا أظنك تنكرين أني أتواجد في البيت بما فيه الكفاية...
فردت الأم بسرعة:
إنني لا أنكر ذلك. و لكنك تكون غارقاً طوال تلك الساعات التي تقضيها في البيت في هموم العمل أو بقايا أعمال المكتب...
إنك في الحقيقة تقضي تلك الساعات في المنزل مع العمل... و ليس معنا... إنني لا ألومك لذلك، و لكنني كثيراً ما أشعر... بل في الحقيقة و طول الوقت أشعر أنني وحيدة...
و خيّم صمت حذر لدقائق، انشغل الأب أثناءه بالتدخين، بينما استسلمت الأم لدموع صامتة تنحدر من عينيها بينما ظلت الفتاة كما كانت طوال الجلسة. تنظر الى نقطة ما في الفضاء... تتحاشى كل العيون... و وجهها كقناع من الشمع... شاحب بلا تعبير أو توتر حي....
ثم انحنى الطبيب قليلاً الى الأمام و قال محدثاً الوالدين:
لقد جئتما إلي تطلبان علاج ابنتكما بسبب انعزالها، و تباعدها، و صمتها التام... و عدم استجابتها للتواصل و لكنني أرى الآن بوضوح أنكما تعانيان من نفس المشكلة بدرجة ما... و هي تحاشي الاقتراب من بعضكما البعض... والخوف من التواصل.
ترى هل سبب ذلك أن كلاً منكم يشعر أنه مطالب من الآخرين بأشياء فوق طاقته؟
إنك تعترفين يا سيدتي أنك تعانين بقسوة من افتقادك للصحبة... ومن الشعور الدائم بالوحدة.
و أنت يا سيدي، بالرغم من أنك ترضخ لمطلب الأسرة أن تتواجد في المنزل، إلا أنك تتواجد بالجسد فقط و تحتفظ بالمسافة بينك و بينهما طول الوقت لإنشغالك بالعمل أما تفكيراً أو فعلاً...
قد يكون حقيقة ما يحدث بينكم هو أن زوجتك و ابنتك يتهربان، كل بطريقته من مطلب خفي غير معلن تريدانه و هو الاقتراب والصحبة...
إن ابنتكما بصمتها تجسد خوفها من الاستجابة لمطلبك العاطفي يا سيدتي. إن جوعك إلى المشاركة، بسبب الوحدة الكثيفة التي تعانينها و ربما بذلت كل الجهد باستمرار لإخفاء شعورك بها، فترسلينها صرخات خفية... تثير فزعها...
و تؤدي بها الى أن تسد منافذ الاتصال بينها و بينك و بين العالم كله، أما خوفاً من أن تفشل في إشباع ذلك النداء العاطفي الجائع، و أما تعبيراً بأسلوبها الخاص الخائف عن نفس الشعور العنيف بالوحدة و الحاجة الملحة الى إشباع جوعها الطفولي الشديد الى الحب و التواصل...
إن ما يجري بينكم تتحمل ابنتكما نتائجه...
إن حسن النية هنا يشفع لهذه الدرجة من سوء الفهم المتبادل، و لكن... النتيجة سيئة كما ترون...
إن الفتاة تحمل صليب الأسرة لا أكثر... و تجسد الآثار السيئة لشبكة من الاتصالات الخفية الغير صحية تعبيراً عن تعارض الاحتياجات.
إنها تطلب المساعدة شخصياً و بصفتها ممثلة للأسرة معاً وكما أنها تحتاج الى مساعدة فإن ما يجري بينكم يحتاج الى تحليل أكثر.
و شبكة الاتصال بينكم تحتاج الى فحص أدق لمعرفة حقيقة المشكلة.
وسكت الطبيب. ودام الصمت لحظات قصيرة مشحونة...
ثم قاطعته الأم قائلة بانفعال و على وجهها إشراقة فهم و راحة:
إنني أشعر الآن أنني لا أستطيع أن أتحمل هذا الحال أكثر من ذلك.. إنني... إنني أشعر أني أحتاج الى علاج مثل ابنتي تماماً... بل ربما أكثر منها...