الاستشراق هو تخصص جماعة من علماء الغرب في دراسة لغات الشرق و ديانته و تاريخه و تراثه. والاستشراق بهذا المعنى قديم و ذلك منذ أن كان رجال الدين الغربيين يأتون الى الاندلس، يوم كان فيها دولة للمسلمين، يتعلمون الفلسفة والعلوم الأخرى باللغة العربية، لغة العلم في ذلك الوقت.
وقد قويت حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر، حينما أخذت الدول الغربية تتسابق لاستعمار البلاد العربية، وانتهاب خيراتها، واخضاع أبنائها. وهذا يقتضي أن يسبق الحكم العسكري بدراسات لتراث الشرق و لغاته، يقوم بها متخصصون أُطلق عليهم اسم المستشرقون.
مع أنَّ هذا هو الهدف الاساسي من الاستشراق في العصر الحديث، فقد قام بعض هؤلاء المستشرقين بدراساتهم و أبحاثهم بهدف علمي بحث، و هو الوصول الى الحقيقة أو المعرفة والرغبة في استطلاع أحوال الشرق و تراثه.
مزايا اللغة العربية
فيما يلي بعض ما كتبه المستشرق الفرنسي هنري لوسيل عن مزايا اللغة العربية وما نستنتجه من النص:-
(( يجد الطفل أو الدارس في اللغة العربية تركيبات لغوية مختلفة كل الاختلاف عما يجده في الفرنسية أو اللاتينية، أو اللغات الاوروبية الأخرى. فهو يتعلم الكتابة من اليمين الى الشمال، و يبذُلُ حركةً عضويةً أقربَ الى الطبيعة، ثم يكتشف نظاماً لغوياً أصيلاً داخل الكلمة، لا يعتمد على الاضافات في بداية الكلمة أو نهايتها.
واللغة العربية تسمح أيضاً بنوع من التركيب المجرد الذي نجده في الوقت نفسه رقيقاً جداً.
كما تسمحُ بتغيير الأسلوب و تبديله. وهذا الأسلوب دقيق و رقيق، وفي الوقت نفسه سهل أيضاً.
و للغة العربية نظامٌ في تصريف الأفعال، ذو بساط، و لكنه أقربُ الى المنطق. هذه المزايا و غيرها تُعطي الطفل أو الدارس المبتدئ بكل تأكيد فكرة عن نوع جديد و فني من التعبير الإنساني.
هذا و إنَّ صعوبة القراءة نفسها تدفع الطفل أو الدارس الى بذل انتباه كبير يفوق انتباهه عند تعلم اللاتينية أو الفرنسية. إنها تعوده قوة الملاحظة التلقائية التي تُفيده في قراءة اللغة الفرنسية نفسها. والنطق، و إن كان صعباً في البداية، فإن الكثيرين يكتسبونه بسرعة و يساعدهم على تعلّم اللغات الأخرى.
هذا يؤيد الظاهرة القائلة: ان العربية تُسهّل بشكل عجيب التكيف الصوتي السريع مع حروفها.
وإذا كان الناس يتحدثون عن إحلال اللغة الألمانية أو الروسية محل اللاتينية، فلماذا لا تحل العربية محل اللاتينية؟
ثم إن اللغة العربية تَفتح أمام الطفل أو الدارس عالماً جديداً منفصلاً تماماً عن النهج التقليدي المعروف. فالحضارة العربية الاسلامية المتوغلة في أعماق السامية المعروفة تختلف تماماً عن حضارتنا. ومن المخجل إنكار هذه الحضارة أو اهمالها))
نستنتج من النص ما يلي:-
- أدرك نفر من المستشرقين ومنهم كاتب المقال السابق بعض مزايا اللغة العربية والتراث العربي الإسلامي.
- كان مع هذا الادراك و تلك المعرفة، موضوعية في تقرير الحقيقة و إعلانها على الملأ. و يُعد هذا أكبر رد على أدعياء الأدب الذين يحاولون بين الفينة والفينة أن يفصلوا بين الأمة العربية و تراثها العريق.
و إذا كان بعض هؤلاء المستشرقين قد أنصفوا التراث العربي الاسلامي، فإن معظمهم ظل مرتبطاً بأهداف الاستعمار الغربي.
كما أن عدداً كبيراً منهم كان مشحوناً بالتعصب الديني أو العنصري، فزوروا كثيراً من الحقائق المتعلقة بالعقيدة الاسلامية والتاريخ الاسلامي، فزعم بعضهم أن الفتوحات الاسلامية كانت بهدف اقتصادي بحث، و زعم غيرهم أن الاسلام انتشر بإكراه الناس على الدخول فيه، و زعم آخرون أن التصوف الاسلامي مأخوذ من التصوف الهندي والمسيحي ومن الديانة الزرادشية.
وحاول آخرون من المستشرقين أن يطعنوا بالصحابة رضوان الله عليهم، فزعم بعضهم أن عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد بسبب خلاف شخصي بينهما. و زعموا أن عمر بن الخطاب حرق مكتبة الاسكندرية، مع أن الوقائق التاريخية تُكذب هذا الافتراء كما تُكذب غيره من المزاعم والافتراءات. وهناك مزاعم وافتراءات كثيرة في كتب المستشرقين يجب أن نكون على حذر منها عند قراءتنا لها.
آثار الاستشراق في الأدب العربي
- نشر المستشرقون كثيراً من كتب التراث العربي مبوبة و مفهرسة ككتاب (الاغاني) للأصفهاني، و (البخلاء) للجاحظ، و (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر..... ونشر المعهد العلمي الفرنسي- وهو مؤسسة استشراقية - عدداً من كتب التراث العربي الاسلامي.
- كشف بعضهم عن جوانب الجمال والعظمة في أدب العرب و لغتهم و تراثهم، كما رأينا في المقال السابق.
- كان لبعضهم اكتشافات جديدة و مهمة فيما يتعلق بتأثر الغربيين بالعرب، وما نقله علماؤهم و فلاسفتهم عن المسلمين. فقد أثبت المستشرق الاسباني( بلاسيوس ) أن فكرة ( الكوميديا الإلهية ) للشاعر الايطالي دانتي تعود لاصل إسلامي، و برهن على أن دانتي أفاد من رسالة الغفران لأبي علاء المعري ومن رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد.
- تبنى آراء بعضهم عدد كبير من الكتاب العرب المحدثين كتأثر طه حسين بالمستشرق ( مر جليوث ) في قضية انتحال الشعر الجاهلي.
- كان لهم دور غير مباشر في تنشيط الحركة الفكرية، وذلك حينما تصدى عدد من الكتاب العرب والمسلمين للرد على المستشرقين، فقد كتب محمد الغزالي كتاباً عنوانه ( دفاع عن العقيدة والشريعة ) ردَّ فيه على افتراءات ( جولد تسيهر ). و ردَّ على كثير من افتراءاتهم العقاد في العبقريات الاسلامية.
- كان لهم دور فعّال في إدخال أساليب البحث العلمي الحديث فيما يتعلق باللغة و الأدب والتاريخ.
- قام عدد من المستشرقين بنشر دائرة المعارف الاسلامية، وهي موسوعة تقع في عدة مجلدات، و فيها تفسير لكثير من قضايا الفكر الاسلامي والتاريخ الاسلامي والتقاليد الاسلامية.