إبن خلدون هو ابو زيد ولي الدين عبد الرحمن بن محمد المشهور بإبن خلدون، الحضرمي الأصل، و ينتهي نسبه الى وائل بن حُجر، الصحابي المعروف.
وقد هاجر جده التاسع خالد بن عثمان - الذي عُرف بخلدون فيما بعد - الى اشبيلية في اسبانيا في القرن الثالث الهجري، و أقام فيها مع عشيرته، وظلّ أحفاده الذين كانوا أعيان أشبيلية فيها، حتى قُبيل سقوطها بيد الاسبان. ثم ارتحلوا الى تونس، حيث ولد هذا العالم الكبير سنة 732ه (1332م) وبها نشأ.
دراسة إبن خلدون و تحصيله
تلقى ابن خلدون مبادئ العلوم الأولية في اللغة والدين على يد أبيه.
ثم حفظ القرآن الكريم بقراءاته السبع. وكثيراً من الشعر الجاهلي، و درس العلوم الفقهية واللغوية والنحوية والأدبية والفلسفة والتاريخ على يد أئمة مشهورين ، ذكرهم ابن خلدون في كتابه( التعريف )- وهو جزء من مقدمته - واعتز بهم.
وفاة والد إبن خلدون و بداية الحياة العملية
في سنة 749ه انتشر مرض الطاعون في تونس و توفي به والده.
واضطر إبن خلدون للعمل في أول وظيفة ديوانية بتونس سنة 751ه وهي كتابة العلامة. و سُميت بالعلامة لأنه كان يضع علامة في أسفل مكتوباته، و يبدو أنها كانت تحتاج شيئاً من الإنشاء والبلاغة، و لكنه لم يرض عن هذا المنصب البسيط، فارتحل الى مراكش حيث دولة بني مَرين القوية.
الحياة السياسية لإبن خلدون
في سنة 755ه عينه سلطان مراكش( أبو عنان ) أميناً لأسراره.
على أنَّ هذا المنصب لم يكن ليُرضي طموح ابن خلدون، وكان يقول: إنه لم يشغل أحد من أجداده مثل هذا المنصب.
وفي سنة 755ه تآمر مع أمير تونس أبي عبدالله محمد الحفصي، الذي كان في سجن سلطان مراكش.
واكتشف السلطان المؤامرة، و أودع ابن خلدون السجن، و بقي فيه الى أن مات السلطان سنة 759ه.
بعد خروج ابن خلدون من السجن عمل أربع سنوات من 760-764ه في مراكش مع وزيرين و سلطانين في وظائفه السابقة، واشترك في مؤامرات ضدهم جميعاً طمعاً في وظيفة أعلى.
سفر إبن خلدون الى غرناطة
في سنة 764ه قام برحلته الاولى الى الأندلس قاصداً ابن الأحمر ملك غرناطة.
فأكرمه الملك و قربه، و جعله أميناً خاصاً له، ثم كلفه في بعثة الى ملك اشبيلية المسيحي، و نجح في مهمته.
و عرض الملك الاسباني على ابن خلدون أن يبقى في بلد أجداده أشبيلية، و يرد عليهم ميراثهم، و لكنه اعتذر بلطف و عاد الى ملك غرناطة الذي أكرمه، و أقطعه ضيعة طابت له الحياة فيها، و استدعى زوجه و أولاده.
و لكن النعمة لم تدم، فقد لاحظ انقباض صديقه الوزير ابن الخطيب و خشي منه.
و صدف أن استدعاه في هذا الوقت الأمير ابو عبدالله الحفصي محمد الذي كان سجين مراكش و تآمر معه ابن خلدون، فقد أصبح أميراً لبُجّاية في المغرب الأوسط( الجزائر ) فودع ابن خلدون ملك غرناطة ابن الاحمر، و وزيره ابن الخطيب، و سافر الى بُجّاية.
عودة إبن خلدون الى بُجّاية و عمله في الحجابة
في منتصف سنة 766ه وصل ابن خلدون بجاية.
و استقبله أميرها استقبالاً حافلاً، و أسند اليه الحجابة أي رئاسة الوزارة، فساس الناس بحكمة، و قضى على الفتن.
لكن ما لبث أن نشبت حرب بين أمير بجاية وابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة، قُتل فيها أمير بجّاية، فآثر ابن خلدون السلامة وانضوى تحت لواء أبي العباس الجديد، الذي أقره في الحجابة، لكنه ما لبث أن ارتاب فيه، و رغب عن خدمته، فاختار الخروج من المملكة.
الترحال والتأليف والقضاء لإبن خلدون
بعد أن خرج من بجّاية سنة 767ه ذهب الى بِسكرة في جنوب الجزائر و أقام فيها سبع سنين من 767- 774ه. ثم رحل و أقام في فاس من 774- 776ه.
وكان في هذه السنوات التسع بعيداً عن وظائف الدولة، يحيك الدسائس، والمؤامرات ضد حاكم بُجّاية أبي العباس و لكنه لم ينجح.
في سنة 776ه رحل عن المغرب الى ابن الأحمر ملك غرناطة بالاندلس، للمرة الثانية، و لكنه لم يتمكن من إحضار عائلته، و في السنة نفسها اضطر الى العودة للمغرب.
سئم ابن خلدون السياسة بعد رحلة الاندلس الثانية، وانقطع للتأليف في قلعة ابن سلامة و أقام فيها أربع سنوات من 776-780ه، و بدأ بتأليف كتابه الشهير( كتاب العبر ) و مقدمته التي أتمها في خمسة شهور.
سنة 780ه انتقل الى تونس، و أقام فيها أربع سنوات أخرى، انقطع خلالها للتدريس، و تكملة كتابه التاريخي. وفي تونس اختفت المنافسة السياسية، فآثر ابن خلدون الرحلة الى المشرق، و تعلل لسلطان تونس برغبته في الحج، فأذن له.
سنة 784ه ارتحل ابن خلدون الى القاهرة، وكانت شهرته قد سبقته.
فعمل بالتدريس في الأزهر الشريف ثم عُين قاضياً للمالكية من 786- 787ه و أظهر صرامة في قضائه، و ضرب على أيدي المرتشين، فتحزب ضده أصحاب المصالح والغايات عند السلطان برقوق، و أبدى هو نفسه رغبة في إعتزال القضاء، فأعفاه السلطان.
وفي هذه الفترة ورد خبر غرق أسرته في البحر، وهي في طريقها إليه، ففقد بغرقها المال والسعادة والبنين.
سنة 789ه أدّى فريضة الحج، ثم عاد الى مصر ليعمل في التدريس و التأليف، حتى ولاه السلطان برقوق القضاء للمرة الثانية سنة 801ه.
وفي أثناء توليته القضاء استأذن و زار بيت المقدس، و وصف مشاهدته وصفاً دقيقاً و بعد عودته بثلاثة أشهر، أعفاه السلطان من منصب القضاء، وكان ذلك سنة 803ه.
في سنة 803ه صحب السلطان برقوق مع بعض العلماء والقضاة لملاقاة الطاغية تيمورلنك التتري الذي كان يهدد دمشق.
و بينما كان السلطان يحصن المدينة و يستعد لملاقاة الطاغية كرَّ راجعاً الى مصر بعد أن علم بمؤامرة ضده، و ترك الذين حاولوا انقاذ دمشق بالفدية و لكنهم لم يفلحوا.
و رأى ابن خلدون أن يقوم بالمهمة بنفسه، فسار الى الطاغية و حادثه، و أُعجب الطاغية بعلمه و عقله، و طلب منه مؤلفاً عن إفريقيا ففعل، و لكن الطاغية أحرق دمشق و ذبح كثيراً من أهلها و عفا عن ابن خلدون و أجازه.
وفاة إبن خلدون
عاد ابن خلدون الى مصر في السنة نفسها 803ه و لبث فيها يقوم بالتدريس والتأليف و يتولى القضاء مرة بعد أخرى، حتى وليه للمرة السادسة، و في سنة 808ه (1406م) قدر لهذه العبقرية الفذة الثائرة أن تهدأ الى الابد.
مظاهر عبقرية إبن خلدون
تبدو عبقرية ابن خلدون و نبوغه في مجالات كثيرة أهمها ما يلي:
- - أنه كان راسخ القدم في كل العلوم التي عُرفت في عصره وعلى الأخص اللغة والأدب والحديث والفقه المالكي.
- - أنه المنشئ الأول لعلم الاجتماع.
- - أنه إمام و مجدد في علم التاريخ.
- - أنه إمام و مجدد في بحوث التربية و علم النفس.
آثار إبن خلدون
لإبن خلدون آثار متعددة و لكن لم يصلنا منها سوى مؤلفه الكبير( كتاب العبر و ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) و يقع في سبعة مجلدات أهمها المقدمة التي تجلت فيها عبقريته، و نالت شهرة و عناية لم يحظ بها كتاب غيرها.